السؤال :
يفهم كثير من الشّباب اليومَ معنى قوله تعالى: {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة: 54.]؛ أنهم الذين يذكرون أخطاء الحكّام على المنابر وأمام الملأ وفي الأشرطة المسجّلة، ويحصرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذلك أيضًا؛ نرجو توجيه هؤلاء هداهم الله إلى السُّلوك الصَّحيح، وتوضيح المعنى الصحيح لهذه الآية، وبيان حكم أولئك الذين يتكلَّمون في الحكّام علنًا.
الجواب :
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة: 54.]؛ هذه الآية في كل من قال كلمة الحق، وجاهد في سبيل الله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر؛ طاعة لله تعالى، ولم يترك النّصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من أجل الناس أو من خشية الناس؛ فإنّ هذا هو الملومُ.
ولكنّ قضية النّصيحة والدّعوة إلى الله؛ كما قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125.]، والله سبحانه وتعالى قال لموسى وهارون لمّا أرسلهم إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44.]، وقال تعالى في حق نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159.].
فالنّصيحة للحكّام تكون بالطُّرق الكفيلة بوصولها إليهم من غير أن يُصاحبها تشهير أو يصاحبها استنفار لعقول النّاس السّذّج والدَّهماء من الناس، والنّصيحة تكون سرًّا بين النَّاصح وبين وليِّ الأمر: إمّا بالمشافهة، وإمّا بالكتابة له، وإمّا أن يتّصل به ويبيّن له هذه الأمور، ويكون ذلك بالرِّفق، ويكون ذلك بالأدب المطلوب.
أمّا النّصيحة لولاة الأمور على المنابر وفي المحاضرات العامَّة؛ فهذه ليست بالنَّصيحة، هذا تشهير، وهذا زرع للفتنة والعداوة بين الحكّام وشعوبها، وهذا يترتّب عليه أضرار كبيرة، قد يتسلَّط الولاة على أهل العلم على الدُّعاة بسبب هذه الأفعال؛ فهذه تفرِزُ من الشُّرور ومن المحاذير أكثر ممّا يُظَنُّ فيها من الخير.
فلو رأيت على شخص عاديٍّ ملاحظة، أو وقع في مخالفة، ثم ذهب إلى الملأ، وقلت: فلان عمل كذا وكذا! لاعتُبِرَ هذا من الفضيحة وليس من النّصيحة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن سترَ مسلمًا؛ ستره الله في الدّنيا والآخرة) [رواه الإمام البخاري في "صحيحه" (3/98) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينبِّهَ على شيء؛ لا يخصُّ قومًا بأعيانهم، بل يقول: (ما بالُ أقوامٍ يفعلونَ كذا وكذا) (1)؛ لأنّ التّصريح بالأسماء يفسد أكثر ممّا يصلح، بل ربّما لا يكون فيه صلاحٌ، بل فيه مضاعفة سيّئةٍ على الفرد وعلى الجماعة.
طريق النّصيحة معروف، وأهل النّصيحة الذين يقومون بها لا بدَّ أن يكونوا على مستوىً من العلم والمعرفة والإدراك والمقارنة بين المضارِّ والمصالح والنظر في العواقب.
ربّما يكون إنكار المنكر منكرًا؛ كما قال ذلك شيخ الإسلام رحمه الله (2)، وذلك إذا أنكر المنكر بطريقة غير شرعيَّةٍ؛ فإنّ الإنكار نفسه يكون منكرًا؛ لما يولِّدُ من الفساد، وكذلك النَّصيحة ربَّما نسمِّيها فضيحة ولا نسمِّيها نصيحة، نسمِّيها تشهيرًا، نسمِّيها إثارة، ونسمِّيها زيادة شرٍّ وفتنة، إذا جاءت بغير الطّريق الشرعيِّ المأمور به.