السؤال :
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه ـ عن رجل قال:
إذا كان المسلمون مقلدين، والنصارى مقلدين، واليهود مقلدين، فكيف وجه الرد على النصارى واليهود، وإبطال مذهبهم والحالة هذه؟ وما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين، وإبطال باطل الكافرين؟
الجواب :
الحمد لله، هذا القائل كاذب ضال في هذا القول، وذلك أن التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة، كالذين ذكر الله عنهم أنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 69، 70]، ونظائر هذا في القرآن كثير.
فمن اتبع دين آبائه وأسلافه لأجل العادة التي تعودها، وترك اتباع الحق الذي يجب اتباعه، فهذا هو المقلد المذموم، وهذه حال اليهود والنصارى، بل أهل البدع والأهواء في هذه الأمة، الذين اتبعوا شيوخهم ورؤساءهم في غير الحق، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:66ـ 86]،
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} إلى قوله: {خَذُولًا} [الفرقان:27ـ 29].
وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} إلى قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166، 167]، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} إلى قوله:
{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}[غافر:47، 48] وأمثال ذلك مما فيه بيان أن من أطاع مخلوقًا في معصية الله، كان له نصيب من هذا الذم والعقاب.
والمطيع للمخلوق في معصية الله ورسوله، إما أن يتبع الظن، وإما أن يتبع ما يهواه، وكثير يتبعهما.
وهذه حال كل من عصى رسول الله من المشركين وأهل الكتاب، من اليهود والنصارى، ومن أهل البدع والفجور من هذه الأمة، كما قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} إلى قوله: {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم:23]، والسلطان: هو الكتاب المنزل من عند الله وهو الهدى الذي جاءهم من عند الله، كما قال تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} إلى قوله: {بِبَالِغِيهِ} [غافر:65].
وقال لبني آدم: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123ـ127].
وبيان ذلك: أن الشخص إما أن يبين له أن ما بعث الله به رسوله حق، ويعدل عن ذلك إلى اتباع هواه، أو يحسب أن ما هو عليه من ترك ذلك هو الحق، فهذا متبع للظن، والأول متبع لهواه... اجتماع الأمرين: قال تعالى في صفة الأولين: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} إلى قوله: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146].
وقال تعالى في صفة الأخسرين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}الآية [الكهف: 103] وقال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء}[فاطر:8].
فالأول: حال المغضوب عليهم، الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه، كما هو موجود في اليهود.
والثاني: حال الذين يعملون بغير علم، قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص:50].
وكل من يخالف الرسل هو مقلد متبع لمن لا يجوز له اتباعه، وكذلك من اتبع الرسول بغير بصيرة ولا تبين، وهو الذي يسلم بظاهره من غير أن يدخل الإيمان إلى قلبه، كالذي يقال له في القبر: من ربك ؟ وما دينك؟ وما نبيك؟. فيقول: هاه، هاه، لا أدري. سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته ـ هو مقلد ـ فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق، أي: لمات.
وقد قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. فمن لم يدخل الإيمان في قلبه وكان مسلمًا في الظاهر، فهو من المقلدين المذمومين.
فإذا تبين أن المقلد مذموم ـ وهو من اتبع هوى من لا يجوز اتباعه ـ كالذي يترك طاعات رسل الله، ويتبع ساداته وكبراءه، أو يتبع الرسول ظاهرًا من غير إيمان في قلبه،تبين أن اليهود والنصارى كلهم مقلدون تقليدًا مذمومًا، وكذلك المنافقون من هذه الأمة.
وأما أهل البدع، ففيهم بر وفجور، وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: أن اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم يتبعون موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم، إنما يتبعونهم لأجل أنهم رسل الله، وما من طريق تثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى.
مثال ذلك: إذا قال اليهود والنصارى: قد ثبت بالنقل المتواتر أن موسى وعيسى ـ مع دعواه النبوة ـ ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه، وأنه جاء من الدين والشريعة ما يعلم أنه لم يجئ به مفتر كذاب ـ ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه ـ وإنما يجىء به مع دعوى النبوة نبي صادق. قيل له: كل من هاتين الطريقتين دليل يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى.
فإنه من المعلوم أن الذين نقلوا ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والشريعة، ونقلوا ما جاء به من الآيات المعجزات، أعظم من الذين نقلوا مثل ذلك عن موسى وعيسى، وما جاء به من هذين النوعين أعظم مما جاء به موسى وعيسى، بل من نظر بعقله في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم النافع، والعمل الصالح وما عند اليهود والنصارى، علم أن بينهما من الفرق أعظم مما بين العَرَم [العَرَم: اللحم. يقال: إن جزوركم لطيب العَرَمَةَ، أي: طيب اللحم] والعِرْق.
فإن الذى عند المسلمين، من توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته، وملائكته وأنبيائه ورسله، ومعرفة اليوم الآخر، وصفة الجنة والنار، والثواب والعقاب، والوعد والوعيد، أعظم وأجل بكثير مما عند اليهود والنصارى، وهذا بين لكل من يبحث عن ذلك.
وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل: الصلوات الخمس، وغيرها من الصلوات، والأذكار والدعوات، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب، وما عندهم من الشريعة في المعاملات، والمناكحات والأحكام والحدود والعقوبات، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب.
فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع، وعمل صالح، وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر، لا يحتاج إلى كثير سعى.
والمسلمون متفقون على أن كل هدى وخير يحصل لهم، فإنما حصل بنبيهم صلى الله عليه وسلم، فكيف يمكن مع هذا أن يكون موسى وعيسى نبيين، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس بنبي، وأن اليهود والنصارى على الحق؟!
فما هم عليه من الهدى ودين الحق، أعظم مما عند اليهود والنصارى، وذلك إنما تلقوه من نبيهم.
وهذا القدر يعترف به كل عاقل ـ من اليهود والنصارى ـ يعترفون بأن دين المسلمين حق، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من أطاعه منهم دخل الجنة، بل يعترفون بأن دين الإسلام خير من دينهم، كما أطبقت على ذلك الفلاسفة، كما قال ابن سينا وغيره: أجمع فلاسفة العالم على أنه لا يقرع العالم ناموس أعظم من هذا الناموس، لكن من لم يتبعه يعلل نفسه بأنه لا يجب عليه اتباعه؛ لأنه رسول إلى العرب الأميين دون أهل الكتاب؛ لأنه إن كان دينه حقًا فديننا أيضًا حق، والطريق إلى الله ـ تعالى ـ متنوعة، ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة، فإنه وإن كان أحد المذاهب يرجح على الآخر، فأهل المذاهب الأخرى ليسوا كفارًا ولا من أهل الكتاب.
هذه الشبهة التي يضل بها المتكايسون[المتظرفون، يقال: تَكَيَّسَ الرجل: إذا تَظَرَّف] من أهل الكتاب، والمتفلسفة ونحوهم، وبطلانها ظاهر، فإنه كما علم علمًا ضروريًا متواترًا أنه دعا المشركين إلى الإيمان، فقد علم بمثل ذلك أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه جاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين، فجاهد بني قينقاع، وبني النضير، وقريظة، وأهل خيبر، وهؤلاء كلهم يهود، وسبى ذريتهم ونساءهم وغنم أموالهم، وأنه غزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه، حتى قتل في محاربتهم زيد بن محمد مولاه الذي كان تبناه، وجعفر وغيرهما من أهله، وأنه ضرب الجزية على نصارى نجران.
وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده،جاهدوا أهل الكتاب، وقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون.
وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به، مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه، ويكفر من لم يتبعه منهم، ويذمه ويلعنه، والوعيد له، كما في تكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه، والوعيد كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم}الآية [النساء:47]، وفي القرآن من قوله: يا أهل الكتاب، يا بني إسرائيل، ما لا يحصي إلا بكلفة.
وقال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} الآية إلى قوله: {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 1ـ7]. ومثل هذا في القرآن كثير جدًا. وقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 158] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ:28].
واستفاض عنه صلى الله عليه وسلم: (فُضِّلْتُ على الأنبياء بخمس) ذكر فيها أنه قال:(كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الجن والإنس، فإذا علم بالاضطرار بالنقل المتواتر ـ الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته ـ أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه حكم بكفر من لم يؤمن به منهم، وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون،وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه وأنه ضرب الجزية عليهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وغنم أموالهم، فحاصر بني قينقاع، ثم أجلاهم إلى أذْرِعَات ] بلد في أطراف الشام]، وحاصر بني النضير، ثم أجلاهم إلى خيبر، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر.
ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد، وقتل رجالهم، وسبى حريمهم، وأخذ أموالهم، وقد ذكره الله ـ تعالى ـ في سورة الأحزاب، وقاتل أهل خيبر حتي فتحها، وقتل من قتل من رجالهم، وسبى من سبى من حريمهم، وقسم أرضهم بين المؤمنين، وقد ذكرها الله ـ تعالى ـ في سورة الفتح، وضرب الجزية على النصارى، وفيهم أنزل الله سورة آل عمران، وغزا النصارى عام تبوك، وفيها أنزل الله سورة براءة.
وفي عامة السور المدنية، مثل البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وغير ذلك من السور المدنية، من دعوة أهل الكتاب، وخطابهم، ما لا تتسع هذه الفتوى لِعُشْرِهِ.
ثم خلفاؤه بعده أبو بكر وعمر، ومن معهما من المهاجرين والأنصار، الذي يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له، وأطوعهم لأمره، وأحفظهم لعهده، وقد غزوا الروم كما غزوا فارس، وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس، فقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون.
ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار).
قال سعيد بن جبير:تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17]، ومعنى الحديث متواتر عنه، معلوم بالاضطرار، فإذا كان الأمر كذلك، لزم بأنه رسول الله إلى كل الطوائف، فإنه يقرر بأنه رسول الله إلى أهل الكتاب وغيرهم، فإن رسول الله لا يكذب، ولا يقاتل الناس على طاعته بغير أمر الله، ولا يستحل دماءهم، وأموالهم، وديارهم بغير إذن الله.
فمن قال: إن الله أمره بذلك وفعله، ولم يكن الله أمره بذلك، كان كاذبًا مفتريًا ظالمًا{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] وكان مع كونه ظالمًا مفتريًا، من أعظم المريدين علوا في الأرض وفسادًا، وكان أشر من الملوك الجبابرة الظالمين، فإن الملوك الجبابرة الذين يقاتلون الناس على طاعتهم، لا يقولون إنا رسل الله إليكم، ومن أطاعنا دخل الجنة، ومن عصانا دخل النار، بل فرعون وأمثاله لا يدخلون في مثل هذا، ولا يدخل في هذا إلا نبي صادق، أو متنبئ كذاب، كمسيلمة والأسود وأمثالهما.
فإذا علم أنه نبي كيفما كان، لزم أن يكون ما أخبر به عن الله حقًا، وإذا كان رسول الله وجبت طاعته في كل ما يأمر به، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء:64] وإذا أخبر أنه رسول الله إلى أهل الكتاب، وأنه تجب عليهم طاعته، كان ذلك حقًا؛ ومن أقر بأنه رسول الله، وأنكر أن يكون مرسلاً إلى أهل الكتاب، بمنزلة من يقول: إن موسى كان رسولاً، ولم يكن يجب أن يدخل أرض الشام، ولا يخرج بني إسرائيل من مصر، وأن الله لم يأمره بذلك، وأن الله لم يأمره بالسبت، ولا أنزل عليه التوراة، ولا كلمه على الطور، ومن يقول: إن عيسى كان رسول الله، لم يبعث إلى بني إسرائيل، ولا كان يجب على بني إسرائيل طاعته، وأنه ظلم اليهود، وأمثال ذلك من المقالات، التي هي أكفر المقالات.
ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلى قوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} الآية [النساء:150ـ152]، وقال لبني إسرائيل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} إلى قوله: {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
فهذه الطريقة الواضحة البينة القاطعة، يبين بها لكل مسلم ويهودي ونصراني أن دين المسلمين هو الحق، دون اليهود والنصارى، فإنها مبنية على مقدمتين:
إحداهما: أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته، وهدي أمته أبين وأوضح، تعلم بكل طريق تعلم بها نبوة موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وزيادة، فلا يمكن القول بأنهما نبيان دونه لأجل ذلك، وإن شاء الرجل استدل على ذلك بنفس الدعوة، وما جاء به، وإن شاء بالكتاب الذي بعث به وإن شاء بما عليه أمته، وإن شاء بما بعث به من المعجزات، فكل طريق من هذه الطرق إذا تبين بها نبوة موسى وعيسى، كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بها أبين وأكمل.
والمقدمة الثانية: أنه أخبر أن رسالته عامة إلى أهل الأرض، من المشركين وأهل الكتاب وأنه لم يكن مرسلاً إلى بعض الناس دون بعض، وهذا أمر معلوم بالضرورة والنقل المتواتر، والدلائل القطعية.
وأما اليهود والنصارى، فأصل دينهم حق، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] لكن كل من الدينين مبدل منسوخ، فإن اليهود بدلوا وحرفوا، ثم نسخ بقية شريعتهم بالمسيح صلى الله عليه وسلم.
ونفس الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى ـ مثل نبوة الأنبياء، وهي أكثر من عشرين نبوة وغيرها ـ تبين أنهم بدلوا وأن شريعتهم تنسخ، وتبين صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من الأعلام والدلائل على نبوة خاتم المرسلين، ما قد صنف فيه العلماء مصنفات، وفيها ـ أيضا ـ من التناقض والاختلاف مايبين ـ أيضًا ـ وقوع التبديل، وفيها من الأخبار من نحو بعدها ما يبين أنها منسوخة، فعندهم ما يدل على هذه المطالب، وقد ناظرنا غير واحد من أهل الكتاب وبينا لهم ذلك، وأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف، وصاروا يناظرون أهل دينهم، ويبينون ما عندهم من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه الفتيا لا تحتمل غير ذلك.
وهذا من الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية؛ إذ عندهم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الإيمان بالله واليوم الآخر، ما يبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بالدين الذي بعثت به الرسل قبله، وأخبر من توحيد الله وصفاته بمثل ما أخبرت به الأنبياء قبله، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]، وقوله: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43]، وقال تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس:94].
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل، ولكن هذا حكم معلق بشرط، والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه، وفي ذلك سعة لمن شك، أو أراد أن يحتج، أو يزداد يقينًا.