المصدر : مجموع فتاوى ابن تيمية
موضوع الفتوى : العقيدة الكتاب : كتاب توحيد الألوهية
السؤال :
سُئِلَ عَنْ عَرْضِ الأدْيَانَ عَنْدَ الْمَوْتِ: هل لذلك أصل في الكتاب والسنة أم لا ؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لتفتنون في قبوركم) ما المراد بالفتنة ؟ وإذا ارتد العبد ـ والعياذ باللّه ـ هل يجازى بأعماله الصالحة قبل الردة أم لا ؟ أفتونا مأجورين.
الجواب :
الحمد للّه رب العالمين، أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمرًا عامًا لكل أحد، ولا هوـ أيضًا ـ منتفيًا عن كل أحد، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام. وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا. منها: ما في الحديث الصحيح: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ في صلاتنا من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم؛ لأنه وقت الحاجة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الأعمال بخواتيمها)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). ولهذا روى: [أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت، يقول لأعوانه: دونكم هذا، فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبدًا]. وحكاية عبد اللّه بن أحمد بن حنبل مع أبيه وهو يقول:لا، بعد، لا، بعد، مشهورة. ولهذا يقال: إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك؛ لما روى أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ملك زادًا أو راحلة تبلغه إلى بيت اللّه الحرام ولم يحج، فَلْيَمُتْ إن شاء يهوديًا، وإن شاء نصرانيًا). قال اللّه تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، قال عكرمة لما نزلت هذه الآية: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. قالت اليهود والنصارى: نحن مسلمون. فقال اللّه لهم: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فقالوا: لا نحجه. فقال الله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. وأما الفتنة في القبور فهي الامتحان والاختبار للميت، حين يسأله الملكان، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم [محمد]؟ فيثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن: اللّه ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيى، ويقول: هو محمد رسول اللّه، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا به واتبعناه. فينتهرانه انتهارة شديدة ـ وهي آخر فتنة التي يفتن بها المؤمن ـ فيقولان له كما قالا أولا . وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة وغيرهم ـ رضى اللّه عنهم ـ وهي عامة للمكلفين، إلا النبيين فقد اختلف فيهم. وكذلك اختلف في غير المكلفين، كالصبيان والمجانين، فقيل: لا يفتنون؛ لأن المحنة إنما تكون للمكلفين، وهذا قول القاضي وابن عَقِيل. وعلى هذا فلا يُلَقَّنون بعد الموت. وقيل: يلقنون ويفتنون أيضًا، و هذا قول أبي حكيم، وأبي الحسن بن عبدوس، ونقله عن أصحابه، وهو مطابق لقول من يقول: إنهم يكلفون يوم القيامة، كما هو قول أكثر أهل العلم، وأهل السنة، من أهل الحديث والكلام. وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري ـ رضي اللّه عنه ـ عن أهل السنة، واختاره، وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد . وأما الردة عن الإسلام بأن يصير الرجل كافرًا مشركًا، أو كتابيًا ،فإنه إذا مات على ذلك حبط عمله باتفاق العلماء، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، كقوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217]، وقوله:{وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، وقوله:{وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]، وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]. ولكن تنازعوا فيما إذا ارتد، ثم عاد إلى الإسلام هل تحبط الأعمال التي عملها قبل الردة أم لا تحبط إلا إذا مات مرتدًا؟ على قولين مشهورين، هما قولان في مذهب الإمام أحمد، والحبوط: مذهب أبي حنيفة ومالك. والوقوف: مذهب الشافعي . وتنازع الناس ـ أيضًا ـ في المرتد. هل يقال: كان له إيمان صحيح يحبط بالردة؟ أم يقال: بل بالردة تبيَّنا أن إيمانه كان فاسدا؟ وأن الإيمان الصحيح لا يزول البتة؟ على قولين لطوائف الناس، وعلى ذلك يبنى قول المستثنى: أنا مؤمن ـ إن شاء اللّه. هل يعود الاستثناء إلى كمال الإيمان ؟ أو يعود إلى الموافاة في المآل، واللّه أعلم.
|
|