المصدر : مجموع فتاوى ابن تيمية
موضوع الفتوى : العقيدة الكتاب : كتاب توحيد الألوهية
السؤال :
فصــل في وجوب الإيمان بخلق الله وأمره، وبقضائه وشرعه
الجواب :
القاعدة السادسة: أنه لقائل أن يقول: لابد في هذا الباب من ضابط، يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات، إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد، وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز. فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته. وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له. ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة، ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسرًا بمعنى من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا: إنه مشبه، ومنازعهم يقول: ذلك المعنى ليس من التشبيه. وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل. وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل، فمن قال: إن لله علما قديمًا أو قدرة قديمة، كان عندهم مشبهًا ممثلا؛ لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله، فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديمًا، ويسمونه ممثلا بهذا الاعتبار. ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه ما لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك. ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، بل يقول: الرب بصفاته قديم. ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة، ولا يقول: هو وصفاته قديمان. ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة، بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلا عن أن تختص بالقدم. وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم، والصفات متصفة بالقدم، وليست الصفات إلها ولا ربا، كما أن النبي محدث وصفاته محدثة، وليست صفاته نبيًا. فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل، كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم تقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهًا، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية. والقرآن قد نفي مسمى المثل والكفء والنِّدّ ونحو ذلك. ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف، ولا كفؤه ولا نده، فلا يدخل في النص. وأما العقل، فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة. وكذلك ـ أيضًا ـ يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلًا لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه. وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية، الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش، وقيام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك، ويقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسمًا، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسمًا، وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه. فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه مشبهًا، ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبهًا، كما يقول صاحب الإرشاد وأمثاله. وكذلك يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو، لكن هؤلاء يجعلون العلو صفة خبرية، كما هو أول قولى القاضي أبى يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه. وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم كما يقولونه في سائر الصفات. والعاقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه، كالأمر فيما أثبتوه، لا فرق. وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات مستلزم للتجسيم، والأجسام متماثلة. والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى، وتارة بمنع المقدمة الثانية، وتارة بمنع كل من المقدمتين، وتارة بالاستفصال. ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل، سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود، أو بالمركب من الهُيولي والصورة ونحو ذلك، فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة، وعلى أنها متماثلة، فهذا يبني على صحة ذلك، وعلى إثبات الجوهر الفرد، وعلى أنه متماثل، وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك. والمقصود هنا أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيمًا بناء على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم، كإطلاق الرافضة النصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وبناء على أن من أحبهما فقد أبغض عليا رضي الله عنه ومن أبغضه فهو ناصبي. وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى، ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه، وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفي ذلك، وبينا فساد قول من يقول بتماثلها. وأيضًا، فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل، وذلك أنه إذا أثبت تماثل الأجسام، فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم. وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم، وثبت امتناع الجسم، كان هذا وحده كافيًا في نفي ذلك، لا يحتاج نفي ذلك. إلى نفي مسمى التشبيه، لكن نفي التجسيم يكون مبنيًا على نفي هذا التشبيه بأن يقال: لو ثبت له كذا وكذا لكان جسمًا، ثم يقال: والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع، وهذا ممتنع عليه. لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمدًا في نفي التشبيه على نفي التجسيم، فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلك آخر، سنتكلم عليه ـ إن شاء الله. وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفي على مجرد نفي التشبيه لا يفيد؛ إذ ما من شيئين إلا يشتبهان من وجه ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب ونحو ذلك، مما هو ـ سبحانه ـ مقدس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة. وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها، فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو ألا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه. وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد؛ ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته بشيء من المخلوقات. فإن قيل: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه. قيل: هب أن الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب ـ سبحانه، ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعًا، كما إذا قيل: إنه موجود حي عليم سميع بصير، وقد سمى بعض المخلوقات حيًا سميعًا عليمًا بصيرًا. فإذا قيل: يلزم أنه يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودًا حيًا عليما سميعًا بصيرًا. قيل: لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعًا على الرب ـ تعالى، فإن ذلك لا يقتضي حدوثًا ولا إمكانًا، ولا نقصًا ولا شيئًا مما ينافي صفات الربوبية. وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود، أو الحياة أو الحي، أو العلم أو العليم، أو السمع أو البصر، أو السميع أو البصير، أو القدرة أو القدير، والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه. فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال، كالوجود والحياة، والعلم والقدرة، ولم يكن في ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق، لم يكن في إثبات هذا محذور أصلًا، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفي هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود. ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة، وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئًا، وربما قالت الجهمية: هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفي القدر المشترك مطلقًا لزم التعطيل العام. والمعاني التي يوصف بها الرب ـ تعالى ـ كالحياة، والعلم والقدرة، بل الوجود والثبوت، والحقيقة ونحو ذلك تجب لوازمها، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا، بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة، وعلم ونحو ذلك. والله ـ سبحانه ـ منزه عن خصائص المخلوقين وملزومات خصائصهم. وهذا الموضع من فهمه فهمًا جيدًا وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات، وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام. وقد بسط هذا في مواضع كثيرة. وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينًا مقيدًا، وأن معنى اشتراك الموجودًات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا؛ لأن الموجودًات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله. ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضًا في هذا المقام، فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرًا من ملزومات التشبيه، وتارة يتفطن أنه لابد من إثبات هذا على تقدير فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة. ولكثرة الاشتباه في هذا المقام، وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته؟ وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو التواطؤ أو التشكيك؟ كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها، وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا؟ وفي وجود الموجودًات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟. وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات؛ فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين، ويحكى عن الناس مقالات ما قالوها، وتارة يبقى في الشك والتحير. وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات، وما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة، ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة. وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج، بخلاف الماهية التي في الذهن، فإنها مغايرة للموجود في الخارج، وأن لفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك، فهذه الألفاظ كلها متواطئة. فإذا قيل: إنها مشككة لتفاضل معانيها، فالمشكك نوع من المتواطئ العام، الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك، سواء كان المعنى متفاضلًا في موارده أو متماثلاً. وبينا أن المعدوم شيء ـ أيضًا ـ في العلم والذهن لا في الخارج، فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به. وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودًات وتختلف، لها وجود في الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة، فتتشابه بذلك وتختلف به. وأما هذه الجملة المختصرة، فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة، من فهمها علم قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكان إغلاق باب الضلال، ثم بسطها وشرحها له مقام آخر، إذ لكل مقام مقال. والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة، فيما ينفي عن الرب وينزه عنه ـ كما يفعله كثير من المصنفين ـ خطأ لمن تدبر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة.
|
|